من أجمل وأبسط تعاريف الصحافة كان التعريف الذي أقرَّ به المعهد الأميركي للصحافة (API) نقلاً عن كتاب عناصر الصحافة المشهور لكل من بيل كوفش وتوم روسينستل ، واللذان قاما بتعريف الصحافة بأنها : " تقديم المعلومات التي يحتاجها المواطنون لتمكينهم من اتخاذ أفضل القرارات المتعلقة بحياتهم ومجتمعاتهم ومجموعاتهم وحكوماتهم " .
لعل هذا التعريف من أصدق ما قيل في وصف جوهر العمل الصحفي والغاية الأساسية منه ، إذ يُعبر بوضوح وبلاغة عن الدور الجوهري الذي ينبغي أن تؤديه الصحافة في المجتمع ، ولكن الواقع اليوم وللأسف الشديد يُظهر ابتعاداً ملحوظاً عن هذا الهدف النبيل ، فالكثير من الوسائل الإعلامية لم تعد توفر لجمهورها المعلومات الدقيقة والموضوعية التي تمكنهم من تكوين آراء سليمة ، واتخاذ مواقف واعية ، وإصدار قرارات صحيحة ومدروسة سواء في حياتهم اليومية أو معظم الأمور المختلفة على المدى القصير ، أو حتى على المدى المتوسط كالاستحقاقات المصيرية التي تتأثر بهم مثل المشاركة في الانتخابات والإدلاء بالأصوات .
تتعدد أشكال الصحافة وميادينها ، فهناك الصحف والمجلات ، والإذاعة والتلفاز ووكالات الأنباء ، وغيرها من الوسائل التقليدية ، وقد انضمت لها في العصر الحديث منصات التواصل الاجتماعي ، التي ربما روج لها الكثير من النخب في بداياتها بوصفها أفقاً جديداً يمنح الصحفيين مساحات أوسع من حرية التعبير ، وذلك رغم أن هذا الانفتاح الكبير حمل معه تحديات خطيرة ، ولعلَّ أبرزها صعوبة ضبط هذه الوسائل ، مما أتاح المجال لظهور خطابات وصحافة عنصرية وتحريضية تصدرت المشهد الإعلامي في السنوات الأخيرة بشكل صادم وغير مسبوق ، ومن هنا فإن المطالبة اليوم بسنِّ قوانين تحمي حقوق الصحفيين وتكفل حريتهم يجب أن تقترن أيضاً بضرورة وضع أطر قانونية واضحة تُحدِّد واجباتهم ، وتضمن مساءلتهم عند تجاوزهم لمبادئ الحرية ، وانزلاقهم إلى تبني خطابات شوفينية أو عنصرية ، أو الدعوة إلى الكراهية والتحريض على الآخر تحت ذريعة حرية الصحافة والتعبير .
إن إدراك خطورة هذه التحولات يستوجب العمل على إقرار قوانين حديثة تنسجم مع الواقع الإعلامي المعقد والمتسارع ، وتُسهم في تعزيز حرية الصحافة باعتبارها حقاً أصيلاً من حقوق الإنسان ، وركيزة أساسية من ركائز الديمقراطية ، على أن تكون هذه الحرية مطلقة في المبدأ ، ومسؤولة في الممارسة ، وإيجابية في الأثر المنعكس على المجتمعات .
شهدت الفترة الأخيرة ، وفي سياق الاحتفاء باليوم العالمي لحرية الصحافة تنظيم العديد من الفعاليات والمؤتمرات في مدن عدة مثل دبي وبروكسل وغيرها لمناقشة تأثيرات الذكاء الاصطناعي المتسارعة ، وخصوصاً ما بات يُعرف بصحافة الذكاء الاصطناعي التي لم تعد مجرد مجال ناشئ ، بل أصبحت محوراً رئيسياً في الدراسات التي تتناول حرية الصحافة ، وهذا الموضوع بما يحمله من أهمية وتعقيد وعمق يستحق بلا شك تناوله بشكل تفصيل أوسع يسلط الضوء على أبعاده من كافة الجوانب ، وأثره في بنية الإعلام ، ومستقبل حرية التعبير في ظل الذكاء الاصطناعي ، ورغم أن هذا التوجه نحو الذكاء الاصطناعي يحمل آفاقاً واسعة لتحسين العمل الصحفي وتطوير أدواته ، إلا أنه يطرح في الوقت ذاته تحديات بالغة الخطورة ، ولا تزال بعض أبعادها غامضة أو غير مُدركة بشكل كافٍ ، ولعلَّ أبرزها ما يتعلق بإمكانية تحول هذه التقنيات إلى أدوات للهيمنة وتوجيه الرأي العام ، وربما تقييد الحرية الحقيقية والفعلية للصحافة من خلال التحكم في تدفق المعلومات وصناعة السرديات بما يخدم أهداف معينة .
وأعتقد أن هذه المخاوف لا تأتي من فراغ ، وهذه ليست مصادفة برأيي أن تُشير تقارير دولية كتقارير "مراسلون بلا حدود" إلى أن حرية الصحافة قد بلغت أدنى مستوياتها منذ سنوات في عام 2025 ، وهو ما يعكس أزمة حقيقية تتطلب وقفة تأمل جادة وإعادة تقييم للذكاء الاصطناعي وصحافة الذكاء الاصطناعي في المنظومة الإعلامية العالمية .
إن ما يُعزِّينا في واقع الصحافة العربية والكردية ، وصحافة المنطقة والشرق عموماً هو إدراكنا العميق بأنه لا وجود حقيقي لصحافة حرة بمعنى الكلمة في هذا العالم البائس ، والحرية المقيدة التي نعيشها في صحافتنا المحلية أو الإقليمية لا تختلف كثيراً عن كبريات الصحف العالمية .
لقد كانت الصحافة قبل قرن من الزمان أكثر شفافية ومصداقية ، أما اليوم فيتزايد مشهد الهتك والاغتصاب لكل قلم حر ، ولا يقتصر هذا التراجع على المجال السياسي فحسب ، بل طال - بكل أسف - حتى الصفحات الثقافية التي يفترض أن تبقى بمنأى عن التقييد والمساس بحريتها ، ويا أسفاه على صحافة باتت تتحرش حتى بالمقال الذي يتناول قضية إنسانية أو اجتماعية .
كانت الصحافة في أزمنة مضت تُسقط حكومات ، وتنهض بأمم ، وتُشعل ثورات ، أما اليوم فقد أضحت في كثير من الأحيان مجرد أداة خاضعة لأجندات ومصالح ضيقة .
أصبحت مكشوفة بشكل واضح أكذوبة حرية الصحافة والرأي والتعبير التي تتشدق بها مؤسسات تدَّعي حرية التعبير للأقلام المستقلة والموضوعية ، وفي كثير من الأحيان نجد أن المؤسسات والمنصات الغير مستقلة تمنح حرية في التعبير أكثر من التي تدَّعي الاستقلالية في شعاراتها وعناوينها فقط .
في هذا اليوم ، لا نملك إلا أن نوجه تحية إجلال لكل كاتب حر لا يقبل الخضوع ، ولكل صحفي مستقل لم يساوم على قلمه .
شكراً لكل صحيفة ، ولكل منصة إعلامية ، ولكل مؤسسة تبنَّت شيئاً من العدالة والموضوعية ، وخفَّفت - ولو قليلاً - من الخطوط الحمراء ، ومنحت الكاتب والصحفي هامشاً ديمقراطياً بسيطاً يُمكنه من الحركة والتعبير .
شكراً في هذا اليوم لكل صحفي أو كاتب أبى أن يكون قلماً مأجوراً لغايات مشبوهة ، ولكل من اختار طريق الاستقلال والصدق .
نجدد التزامنا في هذا اليوم بالوقوف إلى جانب حرية الصحافة ، وعلينا جميعا - ساسةً وشعوباً - أن ندرك أن الصحافة الحرة والصحفي المستقل ليسا ترفاً فكرياً ، بل ضرورة مُلحة في عالم تزداد فيه النزاعات والانقسامات والحروب ، وأن حرية الصحافة والتعبير هي الأمل والوعد الحقيقي بمستقبل أجمل .
-----------------------------------------------------------------------
*الاراء الواردة في هذا الباب لا تعبر بالضرورة عن سياسة الموقع
*ارسل مساهمتك على الايميل [email protected]